كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس خطبة أخيرة في حَجَّته الأخيرة، فكانت خطبة مودع خطبها في الناس وأوصاهم بوصايا تثبتهم على دينهم، وذلك بعد أن علم من الله تعالى من دنو أجله، وقد عرف بعض الصحابة ذلك من خلال خطبته صلى الله عليه وسلم، فلما وقع الحدث الجلل وتوفي نبي الله صلى الله عليه وسلم انتشر الخبر بين الناس، فمنهم من عقل لسانه، ومنهم من أقعد عن الحركة، ومنهم من لم يصدق، ومنهم من ثبته الله وأيده بقوة السكينة، فثبت الأمة، وخطب في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين﴾[1]. فلما تلاها أبو بكر رجع الناس إلى رشدهم، وعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقا، وتلك سنة الله تعالى في خلقه: ﴿كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون﴾[2]، ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾[3]، ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت﴾[4]، ﴿إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون﴾[5]، وكأن هذه الآيات وغيرها لم يتلونها قط من هول المصيبة.
ولما ابتلي المسلمون بمصيبة فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
رثوا الصحابة رسول صلى الله عليه وسلم، سلوانا للقلب؛ لأن المصاب جلل، وهذا الحدث كما هو حدث ولادته صلى الله عليه وسلم من أبرز ما وقع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولابد وأن نستخلص منه الدروس والعبر:
أولا: أن الموت لا يفرق ولا يميز بين الأنبياء والرسل وما دونهم من سائر البشر، فالموت كأس كل شاربها.
ثانيا: أن بعثة الرسل والأنبياء القصد منها معرفة الناس بربهم، وتبليغ شعائره، فإذا ذهبوا لم يذهب الدين، لأن المقصود إنما الله وحده، وهو حي لا يموت، والرسل والأنبياء إنما هم وسائط.
ثالثا: أن عند الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة يظهر ثبات نفس الصديقين، ووفور عقلهم ومكانتهم من الإسلام.
رابعا: أن الصدمة بفقد الأحباب تكون لها وقعا كبيرا على قلب المحبين، بحكم الاستئناس بالمحبوب سيما وإن كان أرحم من الأب والأم، فأي صدمة أبلغ من هذه الصدمة وأشدها أثراً.
خامسا: أن موقف الحزم عند المصيبة الجليلة مطلوب، لئلا تشيع الفتن وتكثر القلائل في المجتمع، ولابد أن يتصدر لهذا الموقف رجل متعقل لا تغلبه العاطفة.
سادسا: أن استحضار النصوص النقلية واجب عند الفاجعة الملمة، لأنها تخفف من وقع الرزايا والمصائب، وتذكر أن كل من عند الله تعالى، ولا مصاب إلا بقدره سبحانه وتعالى.
سابعا: أن سكرات الموت مذيقها كل واحد، وإن كان من الصالحين والأتقياء، فحمى الموت لا تثبطه بل تثبته على كلمة التوحيد.
هذه بعض الدروس والعبر من الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة آنذاك، وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استخلصتها من كتب الحديث والسيرة، ولعل أبرز ما يمكن قوله هو: إن الموت آخر مرحلة من مراحل الحياة، فهو مدركنا لا محالة، إما في أول العمر أو في وسطه أو في آخره، وهو عدل لا يميز ولا يفرق بين طبقات المجتمع، وهو يسلب أعز الناس من بيننا ولا نملك لهم حول ولا قوة، وهو سنة الله تعالى في خلقه، وهو قاهر الجبابرة وهالك الفراعنة ﴿كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون﴾[10].