بين مادية اليهود ورهبانية النصارى جاءت العبودية في الإسلام مراعيةً مقتضيات الفطرة والتناسق البديع بين متطلبات الروح والجسد ، بلا غلو في التجرد الروحي ، ولا إغراق في الارتكاس المادي ، فلا رهبانية ولا مادية ، بل وسطية واعتدال ، كما قال سبحانه (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) .
لذلك لم يعبد المسلمون الأصنام كما فعلت اليهود ، ولم يطلب الإلام من المسلم أن يكون راهباً في دير أو يذهب إلى الصحراء كما فعل النصارى ، وإنما نأى الإسلام بأتباعه عن الكبوات والنبوات والهزات والهفوات التي تخل بغاية الوجود الإنساني تحقيقاً للتوازن بين متطلبات الروح والجسد .
إن بعض المسلمين أراد أن يتشدد في عبادته فرد النبي في عبادته فقد روى البخاري في صحيحه أن سعيد بن المسيب رحمه الله قال : سمعت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول (رد رسول الله على عثمان بن مضغون التبتل ، ولو أذن له لاختصينا) .
وفي الصحيح أيضاً أن النبي قال (وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال : نعم ، أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا : نعم، قال : فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) .
هذه هي الموازنة بين الروح والجسد ، بين الدنيا والآخرة ، فلا إفراط ولا تفريط ، بل وسطية واعتدال ، والدنيا عند المسلم وسيلة تبلغه الآخرة .
تحدث عن وسطية أهل الكتاب والجماعه في الاعتقاد ، مدللاً على ذلك بالبراهين الشرعية؟
تظهر وسطيه اهل السنه والجماعه في عده أمورمن أهمها مايلي
أولاً : وسطيتهم في باب أسماء الله وصفاته :
فأهل السنة وسط في باب الأسماء والصفات بين أهل مقالتين باطلتين ، مقالة من عطل الصفات وفي مقدمتهم الجهمية ، ومقالة من يشبه الله تعالى بصفات المخلوقين كما هو طريق الممثلة ؛ فالتعطيل باطل لأنه جحد ونفي لما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال ، والتشبيه باطل لأنه تمثيل لله بالمخلوقات .
أما أهل السنة فلم ينفوا الأسماء والصفات عن الله تعالى ولم يشبهوا الله بالمخلوقات ، فمنهجهم قائم على إثبات بلا تمثيل ، وتنزيله بلا تعطيل ، على حد قوله تعالى (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فسلموا من الآفتين ومضوا في سواء السبيل .
يقول عنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - (فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله له به ، حتى يشبهوه بالعدم والموات ، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل) .
ثانياً : وسطيتهم في باب القدر :
إن أهل السنة وسط كذلك في باب القدر بين الجبرية ؛ الذين يزعمون أن العبد ليس له مشيئة ، وأنه مجبور على فعله ، ليس له فيه مشيئة ولا اختيار ، فهو عندهم كالورقة في مهب الريح ، وإنما تنسب الأعمال إليه مجازاً ، وإلا فالفاعل الحقيقي هو الله تعالى ، وبين القدرية الذين لا يؤمنون بقدرة الله الشاملة ومشيئته النافذة ، ويقولون أن أفعال العباد ليست داخلة تحت القضاء والقدر ، فالله عندهم لا يقدر على العباد أفعالهم وليست لمشيئته تعلق بها ، فلا يهدي الله ضالاً ولا يضل مهتدياً ، وإنما العباد هم المحدثون لأفعالهم الخالقون لها ، أما أهل السنة فتوسطوا في هذا الباب بين هذين الباطلين ، حيث يعتقدون أن للعبد مشيئة واختياراً ، وأنه الفاعل الحقيقي لأفعاله ، وأن مشيئته تحت مشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فقوله تعالى في الآية (لمن شاء منكم أن يستقيم) رد على الجبرية نفاه مشيئة العبد ، وقوله تعالى (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) رد على القدرية نفاه مشيئة الرب ، فالوسط قول أهل السنة الذين يثبتون للعبد المشيئة ويجعلونها تحت مشيئة الله تعالى .
ثالثاً :وسطيتهم في باب الأسماء والأحكام :
إن أهل السنة وسط في هذا الباب بين الحرورية الخوارج والمعتزلة الذين يسلبون اسم الإيمان عن مرتكب الكبيرة فيسميه الخوارج كافراً ويجعله المعتزلة في منزلة بين المنزلتين أما في الآخرة فاتق الفريقان على أن من مات على كبيرة لم يتب منها أنه مخلد في النار وبين المرجئة الجهمية الذين يقولون أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان وارتكاب الكبائر لا يؤثر في الإيمان ، أما أهل السنة فتوسطوا حيث قالوا : مرتكب الكبيرة دون الشرك مؤمن ناقص الإيمان ، فلا يعطي الاسم على الإطلاق ، ولا يسلبه على الإطلاق ، هذا من حيث الاسم ، أما حكمه في الآخرة فهو تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم أخرجه من النار فلا يخلد فيها .
رابعاً : وسطيتهم في باب الصحابة :
ومن وسطية أهل السنة والجماعة في الاعتقاد أيضاً توسطهم في الصحابة - عليهم رضوان الله - بين الخوارج النواصب الذين كفروا علياً - رضي الله عنه - وطائفة كبيرة من الصحابة واستحلوا دمائهم وبين الرافضة الذين غلوا في علي ، وأهل بيته حتى فضلوه على أبي بكر وعمر ، أما أهل السنة والجماعة فمنهجهم عدل ووسط مع الصحابة ، فلم يكفروا أحداً منهم ، أو يتبرؤوا منهم ، بل أنزلوهم منازلهم التي يستحقونها فأحبوهم ووالوهم ودعوا لهم وترضوا عنهم ولم يقعوا في أحد منهم أو ينتقصوه ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يغلوا في عليه أو غيره ، أو يعتقدوا العصمة لأحد من الصحابة فعيقدتهم في الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على وفق قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).