الاجابه على سؤال / هل يمكن إثبات كل شيء في الرياضيات؟
هناك حقائق لا يمكن برهان صحتها، و عليه فإن البنيان الرّياضيّ سيظل غير كامل؛ هذا كلام قد لا يتفق مع حس البداهة لدى معظم الناس، فكيف يمكن أن تكون هناك حدود للمنطق؟ وكيف يعقل أن توجد حقائق دون براهين؟
نبدأ بتعريف عملية البرهنة وكيفية بناء نسق رياضي من مسلمات بديهية.
تُكتب لغة الرياضيات بسلسلة من الرموز لها معنى معين قد يصح أو يخطئ، تسمى هذه الجمل الرياضيّة بالعبارات، مثلاً 2+2=4 عبارة صحيحة، بينما 2+2=5 عبارة خاطئة، لا نعرف بشكل عام صحة عبارة ما من عدمها إلا بعد الإتيان ببرهان رياضي يثبتها أو ينفيها، هذا البرهان الرياضي يختلف عن البراهين التي نطرحها في نقاشاتنا في التكوين مع أنها تتفق معها في الهدف إلى حد ما، ذلك أن البراهين الرياضيّة تنطلق من مسلمات ، وهي عبارات رياضيّة بديهيّة، نسلم بصحتها دون إثبات لتكون القاعدة والأساس لأي عبارة رياضيّة أخرى تُستنبَط من هذه المسلمات بواسطة المنطق الرّياضي، تسمى هذه العملية بالبرهان الرياضي.
إعطاء البراهين هو أحد أهم أدوار علماء الرّياضيات، وقد ساد الاعتقاد أن لكل عبارة برهان فما كان على العلماء إلا إيجاد البراهين، حتى قلب عالم الرّياضيات "غودل" المفاهيم السائدة في عصره بمُبَرهنة عدم الاكتمال عام 1931. (للاطلاع على مقالنا الخاص بالعالم كورت غودل هنا)
ما هي مبرهنة عدم الإكتمال ؟
تُعد مُبَرهنة عدم الاكتمال تغييراً جذريّاً في الفكر الرّياضيّ السائد، فحتى عام 1931 كان علماء الرّياضيات وعلى رأسهم "هيلبرت" متفائلين، فقد كانوا يظنون أن الرّياضيات علمٌ كاملٌ، أي بإمكاننا إن انطلقنا من المسلمات المناسبة أن نبني نسقاً غير متناقض كل عبارة فيه قابلة للإثبات، حيث طرح "هيلبرت" السؤال التالي: هل يمكننا الجواب بالنفي أو الإثبات من خلال البرهان الرياضيّ على أي عبارة رياضيّة داخل نظريّة رياضيّة ما؟ ( نظرية الأعداد مثلاً) طبعاً كان "هيلبرت" متفائلاً حتى جاءت المفاجأة التي وضعت حداً لهذا التفاؤل، صاحبها عالمٌ نمساوي شاب لم يكن له سيطٌ قبل ذلك، لكنّه الآن من أكثر علماء الرّياضيات تأثيراً.
تقول مبرهنة "غودل" بلغة مبسطة:
إن أيّة صياغة لنظرية الأعداد، منبثقة من عدد من المسلمات غير المتناقضة، لا بد أن تكون غير كاملة.
ولتبسيط هذه المبرهنة أكثر نستعين بشرح بلغة الحواسيب:
افترض أنّك تمتلك حاسوباً خارقاً "أوراكل"، ينجز هذا الحاسوب العمليات الحسابيّة في وقتٍ وجيزٍ، كما أنَّه ككل الحواسيب يراعي قواعد معينة في توجيهه التّعليمات، يحوّل "أوراكل" التّعليمات إلى أعداد ثم بعد القيام بالعمليّات الحسابيّة ( جمع و طرح و ضرب و قسمة) إلى أجوبة تراعي نفس القواعد، مثلاً إذا سألنا أوراكل السؤال التالي:
هل 2017 عدد أوليّ؟ ( الأعداد الأوليّة هي أعداد لا تقبل القسمة إلا على نفسها وعلى 1) فسيقوم بقسمة 2017 على 2 ثم 2017 على 3 وهكذا حتى 2017 على 2016، فإذا لم يجد عدداً صحيحاً أجاب بنعم و إلا أجاب بلا. وما تقوله مبرهنة "غودل" هو أنّ هناك أسئلة لا يمكن لأوراكل أن يجيب عنها مهما بلغت فاعليته و مهما كانت برمجته.
النتائج العملية لمبرهنة "غودل":
نظرياً، تعتبر مبرهنة "غودل" كارثة، فالمبرهنة تخبرنا أنّه مهما كانت كمية وتعقيدات المسلمات التي ننطلق منها فإننا سنصادف عبارة رياضيّة لا نستطيع برهانها (غير قابلة للبرهنة).
بمعنى أنّ هناك آلاف من الرياضيين الذين يُمضون أيامهم في البحث لبرهان صحة أشياء هي في الأصل غير قابلة للبرهان.
لكن عملياً ولحسن الحظ فإنه لا أحد تقريباً يهتم لهذا الأمر ففي الحقيقة انتهينا إلى أنّ العبارات الرياضية غير القابلة للبرهان نادرة جداً إلى حد أننا لانصادفها. فالغالبية السّاحقة من العبارات تقبل البرهان انطلاقاً من المسلّمات التي نستعملها.
فإذا كان الرياضّي يبحث اليوم عن كيفية برهان شيء ما فخوفه الرئيس يكمن في عدم قدرته على إتمام البرهان ولكن لن يتخيل ولو للحظة واحدة أن العبارة لن تكون قابلة للبرهان. نرى هنا إذن أن النتائج العملية لمبرهنة "غودل" جِدٌ محدودة لكن كان للمُبَرهنة وقعٌ كبيرٌ وثوريٌّ على المجتمع الفلسفي و العلمي.